recent
أخبار ساخنة

الاقتباس في الشعر العربي: بين التراث والإبداع

الاقتباس في الشعر العربي: جسر بين الأزمنة ووسيلة لإثراء النص


ما هو الاقتباس؟ – تعريف لغوي واصطلاحي


في اللغة، يُشتق مصطلح "الاقتباس" من الفعل الثلاثي "قبس"، والذي يعني الأخذ أو الإضاءة بشعلة، كما في قولنا "قبس من النار"، أي أخذ منها ضوءًا أو لهبًا. ومن هذا المعنى، نستدل على أن الاقتباس يحمل دلالة "الاستفادة" و"الإضاءة" من شيء قائم.

كتابة الاقتباس في الشعر العربي

أما في الاصطلاح الأدبي، فالاقتباس هو تضمين نص أو فكرة مأخوذة من مصدر معروف (ككتاب أو قصيدة أو حديث أو آية قرآنية) داخل نص أدبي خاص بك، غالبًا دون إخلال بالسياق العام للعمل. ويتم ذلك إما بطريقة مباشرة بنقل الألفاظ ذاتها، أو بصورة غير مباشرة بإعادة صياغة المعنى بأسلوب جديد.

الاقتباس في الشعر العربي – فنٌ وإبداعٌ متجدد


يُعد الاقتباس من أبرز سمات الشعر العربي على مر العصور، إذ استخدمه الشعراء كأداة بلاغية تضيف إلى قصائدهم عمقًا وجمالية، وتربط الحاضر بالماضي في حوار ثقافي وفكري مستمر. لم يكن الغرض من الاقتباس فقط زخرفة النص أو إطالة القصيدة، بل كان وسيلة للتعبير عن الإعجاب بالأفكار السابقة، أو تأكيد فكرة، أو إدخال بعد روحي أو ديني على النص.

ظاهرة الاقتباس في الشعر العربي – أبعاد ثقافية وتاريخية


الاقتباس في الشعر لا يمثل مجرد استعارة لفظية، بل هو نتاج ثقافة أدبية غنية، تتنقل فيها الأفكار من شاعر لآخر، وتُعاد صياغتها بما يعكس خصوصية التجربة الجديدة. هذا التفاعل يولّد نوعًا من "الحوار الشعري" بين الأجيال. ويُعد وجود الاقتباس دليلاً على أن النص الأدبي ليس معزولًا، بل متصل بنصوص أخرى، يُغنيها ويغتني بها.

من خلال الاقتباس، يكرّم الشاعر من سبقوه، ويُعبّر عن امتنان غير مباشر لتراث شعري ساهم في تشكيل وعيه الفني. كما يُسهم هذا الأسلوب في الحفاظ على التراث العربي ونقله إلى الأجيال اللاحقة، بصيغ جديدة وأسلوب حديث.

أنواع الاقتباس في الشعر العربي


يأخذ الاقتباس في الشعر العربي عدة أشكال، منها:

1. الاقتباس المباشر: وفيه يتم نقل نص كما هو من مصدره، دون تغيير في الصياغة، وقد يُرفق باسم القائل أو يندمج ضمن السياق الشعري بسلاسة.

2. الاقتباس غير المباشر: حيث يعيد الشاعر صياغة الفكرة أو المعنى بأسلوبه الخاص، مع الحفاظ على الجوهر الأصلي للفكرة.

3. الاقتباس الإبداعي: وهو أرقى أشكال الاقتباس، إذ يُعيد الشاعر تشكيل فكرة قديمة ضمن بناء شعري جديد كليًا، مبتعدًا عن النقل الحرفي، وقادرًا على دمج الاقتباس في نصه حتى يبدو جزءًا عضويًا منه.

4. الاقتباس الثقافي: ويتعلق بالأمثال الشعبية، أو العبارات المتداولة، أو الأغاني التراثية التي تُقتبس للاستفادة من معناها العام أو تأثيرها العاطفي.

5. الاقتباس الديني: وهو استخدام النصوص القرآنية أو الحديث الشريف في بناء القصيدة، ويُعد من أبلغ أنواع الاقتباس لما في هذه النصوص من بلاغة وروحانية.

الاقتباس من القرآن الكريم والحديث الشريف


من أبرز سمات الشعر العربي الكلاسيكي، تضمين الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، سواء بشكل مباشر أو بتحوير بسيط يخدم الإيقاع والقافية. يُضفي هذا النوع من الاقتباس بُعدًا روحيًا على النص، ويمنحه طابعًا مقدسًا.

أمثلة على ذلك:

قال شاعر:

  "فإنَّ الله خلاقُ البرايا
   عنت لجلال هيبته الوجوه"

  وهو مقتبس من الآية:

  "وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلمًا" (طه: 111)

 وفي بيت آخر:

   "يقول إذا تدانيتم بدين
   إلى أجل مسمى فاكتبوه"

  مقتبس من الآية الشهيرة:

   "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ" (البقرة: 282)

 أما الحديث النبوي، فيقول شاعر:

  "وإذا ما شئتَ عيشًا بينهم
   خالِقِ الناس بخُلْق حسن"

  في إشارة إلى الحديث:

   "وخالق الناس بخلق حسن"

هذه الاقتباسات، إن أُدرجت بلطافة، تجعل النص الشعري أبلغ تأثيرًا وأقوى وقعًا في نفوس المتلقين.

الاقتباس من الشعر العربي القديم


تُعد القصائد الجاهلية والعباسية والأندلسية مصدرًا غنيًا بالصور البلاغية والمفردات الشعرية. كثيرًا ما يلجأ الشعراء إلى اقتباس أبيات أو أشطار من هذه العصور، إمّا لتأكيد المعنى، أو لإضفاء طابع تراثي على القصيدة.

وقد كانت هذه الممارسة جزءًا من "تقاليد الأدب"، لا تهمة بالسرقة، بل دليل على وعي ثقافي عميق وتفاعل مع التراث. بل إن بعض الشعراء يفتتح قصيدته باقتباس معروف ليعلن تأثره وتواصله مع شاعر معين.

شروط الاقتباس الفني في الشعر


رغم جمال الاقتباس، فإن استخدامه يتطلب توازنًا وذوقًا أدبيًا عاليًا. فالشاعر الماهر هو من يوظف الاقتباس بما يخدم النص ويثريه، لا أن يُثقل قصيدته بألفاظ دخيلة تُشعر القارئ بالاستنساخ أو التكرار.

من أهم شروط الاقتباس الجيد:

 أن يكون متناغمًا مع السياق العام للنص.
 أن يُصاغ بأسلوب سلس لا يقطع تدفق المعنى أو الوزن.
أن يُراعى فيه الصدق الأدبي، بذكر المصدر إذا لزم الأمر.
أن يُظهر إبداع الشاعر من خلال إعادة إنتاج الفكرة في قالب جديد.

الاقتباس كأداة تواصل بين الأجيال


الاقتباس لا يُستخدم فقط لأغراض فنية، بل يحمل وظيفة ثقافية عميقة. فهو وسيلة لخلق جسور بين الشعراء عبر العصور. ومن خلاله، يستمر النص الشعري في الحياة، ليس فقط بحروفه، بل بروحه ومعناه.

عندما يعيد شاعر معاصر توظيف بيت جاهلي أو معنى ديني، فإنه لا يكرّر الماضي، بل يبعثه من جديد، في صورة تعكس واقعه هو، ورؤيته هو. وهكذا يتحول الاقتباس إلى وسيلة للتجديد، لا للتقليد.

الاقتباس بين الأمانة والإبداع


الاقتباس في الشعر العربي ليس مجرد حيلة بلاغية، بل تعبير عن هوية ثقافية متواصلة، تجمع بين تقدير التراث والسعي إلى الإبداع. هو فن في حد ذاته، يحتاج إلى مهارة، ووعي، وذوق، واحترام. وإذا أُحسن استخدامه، فإنه يُضفي على النص بعدًا فكريًا وجماليًا يصعب بلوغه بغيره.

في النهاية، لا يُقاس جمال القصيدة بمدى أصالتها فقط، بل بقدرة الشاعر على إعادة خلق المعنى وإعادة بث الحياة في كلمات قديمة بروح جديدة.

google-playkhamsatmostaqltradent